13
اكتوبر
2025
تسويق العوز... حين يتحوّل الألم إلى مشروعٍ إعلاميّ ودمعةٍ مأجورة!
نشر منذ 2 ساعة - عدد المشاهدات : 53

بقلم / جعفر محيي الدين – النجف

إلحاقاً بمقالنا السابق (التسوّل حين تتحوّل الحاجة إلى تجارة والرحمة إلى غطاءٍ للجريمة)، نواصل تسليط الضوء على هذا الملف الإنساني الذي لم يعد مشهداً عابراً على الأرصفة، بل تحوّل إلى صناعةٍ تدار بالعاطفة وتُسوَّق بالدموع.

بين محترفي الاستجداء الجدد وابتكار أساليب { إخراج المشهد}، صار التسوّل مشروعاً دعائياً يُبنى على التمثيل واستدرار العطف لا على الحاجة الحقيقية.

مشاهد تُوجِع القلب قبل ان تدمع العين سيارة محترقة وسط الشارع، أو دراجة يلتهمها اللهب، يقف أصحابها يطلبون العون تحت شعار {احترقت وسيلة رزقنا}. وما إن يهبّ الناس للمساعدة حتى تكشف كاميرات المراقبة لاحقاً أن الحادث مفتعل بعناية، وأن الدموع جزء من العرض لا من الوجع.

الأدهى من ذلك أن بعض هؤلاء حوّلوا العوز إلى منتجٍ تجاريّ، يتاجر بالرحمة ويستثمر في الألم، فهذا يدّعي المرض ويجمع التبرعات وهو في عافية، وتلك تستأجر طفلاً مخدّراً على ذراعها لتكتمل الصورة المفبركة التي تُثير الشفقة، وعندما دقّقت الجهات الأمنية في بعض الحالات، تبيّن أن عدداً من هؤلاء الأطفال مخطوفون أو مستأجرون من عصابات تتقن لعبة التجارة بالعاطفة، وبعضهم {للأسف} يفارق الحياة على الأرصفة دون أن يُعرف له اسم، لم تعد هذه الحالات استثناءً، بل شبكات منظمة تستغل حاجة الناس للعطاء لتوسّع تجارتها، فمشاهد البكاء والعجز والإصابة ليست دائماً من الواقع، بل كثير منها فصول من سيناريوهات مُعدة بإتقان، تُعرض كل يوم في مسارح الشوارع والمفترقات، إنّ مواجهة هذه الظاهرة لم تعد مسؤولية الأمن وحده، بل قضية أخلاقية ووطنية، ومن هنا نشيد بجهود الأجهزة الأمنية التي كشفت تلك العصابات وضبطت حالات المتاجرة بالأطفال واستغلال العناوين الإنسانية الزائفة، وما أظهرته الكاميرات من مشاهد الحرق المفتعل والتمثيل العاطفي لم يكن سوى جزءٍ بسيط من حجم الخداع الذي يُمارَس تحت راية المظلومية.

ولضمان اجتثاث هذه الظاهرة، ينبغي التنسيق بين المؤسسات الأمنية والخيرية عبر قاعدة بيانات موحدة، تُسهم في معرفة هوية كل من يُقبض عليه وهو يمارس التسوّل، لتحديد ما إذا كان محتاجاً فعلاً أم محترفاً في أداء دور {المظلوم}.

 كما يجب تفعيل أدوات الردع والعلاج معاً، فبعض المتسولين جعل من التسوّل عادةً تدرّ المال بلا جهد، حتى تحوّل الأمر من فقرٍ إلى إدمانٍ على الذلّ.

إنّ التسوّل اليوم لم يعد حالة اجتماعية، بل ثقافة دخيلة تُروّج للعجز وتُخدّر ضمير المجتمع باسم الإنسانية، ومن يمنح بدافع الرحمة، قد يشارك دون أن يدري في تمويل شبكةٍ تُتاجر بدموع الأطفال وتبتز الضمير العام.

ولذلك فإن المعركة ليست أمنية فحسب، بل توعوية وأخلاقية قبل كل شيء. على الناس أن يدركوا أن المساعدة الحقيقية تكون عبر القنوات الموثوقة والمؤسسات الخيرية، لا على الأرصفة حيث تختلط الدموع بالتمثيل، فالكلمة الطيبة والنية الصادقة قد تكون أحياناً أصدق من صدقةٍ تُغذّي الجريمة.

وما نكتب اليوم ليس سوى امتدادٍ لواجبنا الأخلاقي في حماية مجتمعنا، كما كتبنا مراراً عن قضايا أخرى تمسّ قيم الناس وسلامة مدنهم. فالقلم الذي نحمله ليس للاتهام ولا للتشهير، بل للتطهير والإنقاذ؛ نحاول به أن نحمي ما تبقّى من نقاء المدينة، وأن نهزم الحالات الغريبة التي تتسلل لتشوه صورة الإنسان والمكان.

قلمنا مسخّرٌ لخدمة الناس، لا لمجاملتهم، وللكلمة عندنا رسالةٌ أسمى أن تكون سلاحاً ضد القبح، لا زينةً فوقه.

لقد آن الأوان أن نضع حدّاً لتسويق العوز وتجميل الخداع باسم الرحمة، وأن نستعيد المعنى الحقيقي للتكافل الإنساني كرامة الإنسان أولاً... لا عاطفة العابرين.

 


صور مرفقة






أخبار متعلقة
تابعنا على الفيس بوك
استطلاع رأى

عدد الأصوات : 0

أخبار