11
مارس
2024
قراءة وتأويل لقصيدة الإرث لـ علي الامارة .. الشاعر رياض عبد الواحد
نشر منذ 2 شهر - عدد المشاهدات : 83

البعد السيمانتولوجي والاكتواء بجمرة الابوة

مطبخ الكتابة يشبه الى حد كبير مطبخ الحرب، فيه تنضج الاشياء قبل اوانها، وتكون الذكريات بكل ما تحمل العزاء الوحيد للأنسان في ساعة من ساعات توحده وهو في مواجهة الموت . كتب (علي الأمارة) الارث وهو في أتون حرب طاحنة وفي منطقة نائية مملوءة بالكثبان الرملية حيث يحس الانسان ساعتها ان كل شيء يحاربه حتى الطبيعة. ومن هذا الفرن الحياتي نضجت الأرث وهي بحق قصيدة مهمة جدا وتستحق دراسة متأنية لأن الاصوات فيها متداخلة والتجنيس الشعري مكتظ بنحو جميل ودقيق . يحيلنا / النصيص / الى الشرعنة، شرعنة الحقوق الملتصقة في وجهة من وجوهها بالحق الالهي على البشر فيما يمتلكون. ولعل الشاعر يذهب الى الضفة الثانية من الشرعنة ليحيلنا الى الارث المعنوي اكثر من الارث المادي، لهذا يختار (الصوت) ليكون النواة المركزية التي تمتد على جسد القصيدة للانطلاق في البعد الزمني لهذا الارث . و(الأرث) عملية استجلاء حقائق متراكمة في الذاكرة ومتحققة على ارض الواقع (هذا فيما يخص القصيدة حصرا) . فالشاعر ينظر نظرة بندولية الى / الارث / الذي يذهب يمينا ويسارا، شمالا وجنوبا على خارطة الزمن بغية الكشف عما يحمل من منتجات .

في المقطع الاول يجسد الشاعر مشهدية واصفة عامة لأختلاجات الذات المدلهمة بالحزن، اذ يبدأ بالدال اللساني الفعلي / يسافر / . وعلى الرغم من صيغة المضارع التي تزامن حركة الفعل الا ان متحققاته ممتدة في صيغ الزمن الثلاث، بمعنى ان متحققاته الحالية جاءت نتيجة تركيم افعال ماضوية تتحقق الآن وتنهض في المتقبل لأن الحاضر غرس الماضي والمستقبل غرس الحاضر. فالشعر مقرون بالفصول، والفصول متعاقبة في حركتها، لهذا كان اختيار الشاعر لمفرداته اختيارا دقيقا وموفقا وموضوعيا على الرغم من ذاتية الخطاب الكلي . فالربط المنطقي حاصل بين الفعل / يسافر / ومفردة / الفصول /، فعلى الرغم ان / الفصول / اسم ودلالته الثبات الا ان به حركة داخلية ، اي انه يحمل ايقاعه البصري (من البصر) وديالكتيكيته الزمنية غير القابعة في فترة زمنية معينة، ولهذا لا تنفك الفصول عن بنية الحركة المتحققة في الفعل / يسافر / . ان السفر المتحقق في الفصول جاء نتيجة لعملية النهوض المقترنة بتحقق قوى جسدية قادرة على القيام بها لأنجاز ما ترمي اليه خاصة وان هذا النهوض متحقق في / البراري البعيدة / التي تحتاج الى مهارة في عملية النهوض وتكملة المشوار . فصفة الاقتران اللفظي كثيرة في القصيدة وهي التي ساعدت على تفعيل بنية الازاحة الدلالية اذ ان :

البراري = وحشة الروح

الخمر = الجمر

ارتداد الصدى = ابتعاد المدى

وتنتهي مشهدية المقطع الاول بالأقفال التوقعي القسري

تُرى

أي وهم عراك

ليسقط كأس اللظى

من يديك

ألأنك قافلة للأسى

أم هو الموت

أقرب منك

اليك ؟!

في المقطع الثاني يضعنا السارد في مواجهة المصير المشار اليه بالدال اللساني / دربك / مقرونا بلعبة الشعر العمودي التي أضفت على الايقاع البصري (من البصر) ايقاعا طريا واضح المعالم . قلنا ان الدال اللساني / الدرب / يخلق انفتاحا مكانيا بوصفه السبيل المؤدي الى الاماكن التي يرومها الانسان والذي بدونه يستحيل الوصول الآمن . وعلى الرغم ان / الدرب / جاء خاليا من التوصيف المباشر بيد انه ثري بمحمولاته التي انتجته، فهو حصيلة مشوار حياتي طويل يبدأ بالسفر وينتهي بالموت مصطحبا ذلك الصوت العاري . ان صوت الشاعر يدفع بالشخصية المركزية الى حيث أتون المسير الشاق المكتظ بالوعورة والخطى الملتهبة :

هذا هو دربك الآن

فأسرج بهاجسك الصعب

جمر التوجس

نار خطاك وبرق دربك الوعرُ

فكلم الصخر كي تبدو لك الصورُ

وعاود الامر ان عادت يداك سدى

وعانق الوهم ان ازرى بك القهرُ

ان المقطع آنفا ضاج بالتضادات الدلالية المتمثلة بالفعل / أسرج / وهو فعل ينم عن حركية وما لا يماثله متمثلا بـ / التوجس / الحامل لصفة التردد والانكماش والانكفاء . فالخطى – هنا – هي المنتجات الفكرية الضاجة بالحرارة، اما / الدرب / فهو الواقع الذي تنزل عليه تلك الافكار والتداعيات. ان السرد ما زال خارجيا غير انه يمس بنحو خلاق ما هو ذاتي بغية دمج الموضوعي بالذاتي وتحصيل بنية تعالقية تضفي على القصيدة تدفقا بواسطة التكثيف الصوري

ايها المتوحد في الظل

هل اطرتك السنين بصومعة الجمر

اهزوجة

أم تُراك

ضربت المدى خبط عشواء

منبهرا بالتماع النجوم

حين نتأمل المقطع انفا نراه مؤطرا بنزعة السؤال القائم على عدم معرفة الآخر في حين ان عموم القصيدة تحيلنا الى غير ذلك . هذا الأجراء اجراء فعال اذ انه يخلص الدلالات الواضحة من مباشريتها بوساطة تشفيرها عن طريق السؤال، وكأن السارد العارف يريد ان يقف على قرارة الشخصية الرئيسة وان كان مشاركا لها الاحداث . هذا التجلي يرمي الى تفتيت الجوهر بحثا عن مآل صيروري قادر على استيعاب ما هو سردي عن طريق ما هو شعري . هكذا تجانس يفضي الى ابراز النمط التناوبي الذي يكوّن مجموعة من الفواعل النصية المتوزعة بين ألأنا / الـهو. يتجه السرد بعد ذلك الى الانحراف عن مساره في اماكن عدة . لاحظ التحول المباشر من دون سابق تنبيه..

فكلم جوادك ثانية

واسترق لحظة للصفاء

ان اجمل ما في الصحاري

انها فرصة للبكاء !

ولتكن ما تكون

غير انك لا تنتطي فسحة الارض

دون احتراق

ولا تسبق الوقت ما لم تعانق يداك

الحقيقة

يحقق النص هنا شعرية عالية بواسطة تركيم بنى المفارقة واحداث خرق في علاقة الاسناد . فنلاحظ ان الجملة الاولى تحمل دالتين لا تحملان اية نغمة للصفاء / كلام + جواد / ثم تتبع بأستراق لحظة الصفاء . هذا لا يمكن حصوله في الواقع لكن ما يشيع روح المعقولية هو هذا الاستبدال الدلالي، بمعنى ان هذا الاستراق + التكلم = الصحراء + البكاء . ان الشاعر – هنا – يحاول استبدال المحاور الدلالية للانفتاح على ما هو ذاتي مترشح مما يقع في قلب المفارقة وهذا ما يدفع بنا لأن نكون في وسط الحالة التي نحن بصددها من دون الخوف مما سيأتي بدليل القرينة النصية

ولتكن ما تكون

هذه الجملة هي نواة الانفجار الكبرى التي يدفع بواسطتها السارد / الشخصية المركزية/ بواسطة التداعي لأعتلاء ناصية الحقيقة ومسك الزمن من اعطافه...

ياغربة الروح هل بعد الردى حذرُ

وهل يغني المغني وهو يحتضرُ

دارت بي الارض مصلوبا على حجر

الماء لي وطن والنار لي وطرُ

في المقطع الثالث نجد ان البنية السردية تتم عبر عملية استرجاع ذاكراتي مبني على البوح المؤطر بالحكمة. ثم ان الامكنة التي يختارها الشاعر امكنة استيلادية (العاصفة، الرحم، الشجرة الوارفة)، ويتبع ذلك ان هذا المقطع يبدأ بجملة مشحونة بالقلق والدهشة الواثقة اضافة الى المفردات الناضجة الدلالة (النار، البرق، الرعد) التي تومىء بالخطر القادم الذي يلح على استيلاد ما تبقى من الضرر. ان السارد المشارك في الحدث يدخل في صلب القضية الرئيسة وكأنه يتناوب دور البطولة مع الشخصية المركزية، اذ ان الموجهات الدلالية تحيلنا الى رؤى السارد المشارك

يتم هو العمر

ان لم نعمد بماء الحقيقة اوجاعنا

ثم نسمو على نغم الذات

أو نطلق الصرخة النازفة

وبأ نتقالة اسلوبية بارعة يتجه النص فجأة الى الامكنة الضيقة الولودة بيد ان هذه الولادة معنوية (ضوء + درب) غير انها مشدودة الى ما هو مادي (الشجرة الوارفة)، هكذا تترى الولادات / الرؤى الشاردة، فصول البلوغ ... الخ . وينسج النص وهو في خضم العاصفة السردية مجموعة من الرؤى الحالمة المستخلصة من معالم التجربة الحياتية للسارد المشارك . هذا الاجراء ساعد على هيمنة ذلك السارد على مسرى السرد، اذ يتداخل الزمكاني لخلق فضاء يخرج عن وظيفته الزمكانية، بمعنى ان النص لم يكتف بالوقوف عند ما هو زمكاني والمراوحة الكليلة فيهما بل حاول ان يؤسس ذلك بما تحصل من بنية معرفية مستحضرة كل قيم الحياة ومسترشدة بما في النفس من توق الى الحياة معمدا بما هو عقلي....

سينبجس الماء في جلمد العمر

تورق احلامنا في حجر

ما الذي اورثتنا الحياة

ترى هل سيغتالنا شبح الوقت

في اللحظة القادمة

ام هو الوعي سوف يسوق خطانا

الى النقطة الحاسمة

انها القاصمة !

يبدأ المقطع الرابع بنقطة استقرار واستشراف للاتي من الزمن، وهنا نلمس وقعا واضحا للايقاع ذي الضربات العالية بأستعمال قافية ذات بنية صوتية عالية بواسطة حرف الحاء الثاوي في كلمات تنم عن حركية وانفتاح (الرياح، الصباح، الرماح)، وتبدو لنا براعة الشاعر في عملية التناغم الحاصلة بين الايقاع العروضي والايقاع البصري الذي يشبه رسم اللوحة التشكيلية التي تتوزع على ضربات رسمية (من الرسم) / التماع الاسنة / ذبول الرماح / انتقال الليالي . ويشيع في هذا المقطع المونولوج الذاتي الذي يتجانس مع ذات المروي له. هذه البنية الحوارية ما هي الا تغليب ما هو موضوعي على ما هو ذاتي بغية انقاذ ما تبقى من مفارقات الزمن المحكي عنه في داخل النص لا في الحياة لذلك يلح النص على لازمة / وحدك الآن / ليضفي على الشخصية المركزية حملها للعبء التاريخي الذي استقر على كاهلها لسنوات طوال بواسطة تأطير الصورة العامة بمجموعة من الرؤى الحكمية (من الحكمة) التي يطلقها السارد المشارك حتى يبدو انه اكثر وعيا لأنه يضع لها علامات الطريق الذي تسير عليه وان كانت قد حصلت على مستوى الواقع في الزمن الماضي الا انه يريد ان يسقط تصوراته الحالية عليها ليكون بالفعل ساردا مشاركا في الحدث على الطريقة البندولية للزمن..

فأبتدع لغة للرحيل المفاجىء

واختر طريقا الى الجمر

ان الهوى محنة والليالي اغتصاب

وكن مثلما كنت

يا ايها المتكور في غابة الماء والنار

ان اللغة الكنائية في هذه القصيدة هي الاكثر حضورا لأن النص نص واقعي على الرغم من ميله الى التجريد بيد انه يحمل المفردة الناضجة الطرية ويضفي عليها بعدا واقعيا متلمسا بواسطة خلق مستوى عال من التضاد الوعيوي بين شخصية واقعية واخرى تشتغل على الواقع من خلال الشعر وبرؤى اخرى مغايرة لما تحمله الشخصية المركزية...

عانق يديك يسافر فيهما السفرُ

وأشفق عليك فأن الملتقى وعــــرُ

انت التراب وانت الجوع والبطر

انت الطريق وانت الموعد الخطرُ

لنلحظ هنا فجأة تحولا في رسم هذه الشخصية من اجل احداث خلخلة بين صوت السارد المشارك والصوت الداخلي بواسطة بنية المفارقة

لن تخرق الارض

مفض الى الوهم قلبك

ليلك داج

ونجمتك المرتجاة .... احتجاج

هذه المفارقة تعتمد على مبدأ المباغتة النصية التي ينحرف فيها السرد عن طريقه العام من اجل خلق مستوى عال من الوعي الذي يصوغ ابجدية الوجود في ضوء المتحصل من معطيات ذلك الوعي . ولعل أجمل ما في هذه القصيدة الضربة الاخيرة المؤطرة بنشيج روحي حالم ومشهد يضج بالأسى لفقد الأب، هذا الأب هو الملهم الوجداني للسارد المشارك. فالتبدل الحاصل في صوت السارد المشارك يعود الى تنامي صورة الشخصية المركزية في داخل المحكي الشعري كونها المعادل الروحي لدخيلة الشاعر، اذ ان مستخلصات الشخصية المركزية هي في بعضها جزء من مستخلصات الشعر الحالية . ان تجربة الشخصية المركزية / الأب / ذات اثر فاعل في تكوين شخصية الشاعر على الرغم من محاولة الاخير تغييب صوت الأب ورؤاه بواسطة اظهار متصورات السرد المشارك بنحو شعري لكنه غير منفصل عن دواخل الشخصية المركزية. ان مرد ذلك كله يعود الى ان ذات السارد المشارك اكثر تفاعلا مع الزمن ، بمعنى ان وعيه استجلب الزمن بأبعاده من دون ان يؤثر ذلك على انسيابية النص بواسطة مجموعة من الاسترجاعات الذاكراتية....

ابي

ما الذي أورثتنيه

ماالذي حملتنيه

ان اثقل وزر على الارض

ان يحمل المرء موت ابيه

أي برق يشد خطاي اليك

لكي أقتفيه

أي دين أفيه

وهبني عبرت الفراغ المخيف

وهبني

فألف فراغ يليه

انني اسمع الان صوت القبور

ترى اي اذن تعيه

انني ارقب الآن

هذا التراب الذي أنت فيه

واسمع صوتك يأتي من الغيب

سوف تتيه

سوف تتيه

وتصبح ملك الضلالة

يصبح ماؤك جمرة

ودمعك جمرة

فهل تحتسه؟

انها

محنة المبتلى

بأبيه

ان هذا المقطع الاخير الذي يكرس البعد الاخلاقي الذي يشعر الانسان به حيال فقد ابيه هو خرط القتاد . فهذه القدرية الموجعة تبدو في النص وكأنها مرجعية تدق اجراسها في عقل الشاعر الذي يبقى مأخوذا بصورة الأب التي تداعب وعيه وضميره وهواجسه واحساساته بين الحين والحين.


صور مرفقة






أخبار متعلقة
تابعنا على الفيس بوك
استطلاع رأى

عدد الأصوات : 0

أخبار